كيف يعيش المصابون بالهشاشة؟
في عالم مادي، يركض أبناؤه نحو الاستهلاك والتحقق المادي. كيف يعيش المصابون بالهشاشة في المشاعر والحس المرهف؟
add تابِعني remove_red_eye 21,476
يغرق العالم الحديث في ماديته، تقوم أعماله على التسويق، وتركز مهامه على الاستهلاك.يقيم أفراده بما يملكون وبما يطمحون للامتلاك، يعيش أيضًا أفراد كل ما يملكونه “المشاعر”: العلاقات الإنسانية (عائلية، حبٍ، صداقة، جيرة)، يبدو تواجدهم كمن يجذف عكس التيار. في تيارٍ واحد يركض المنتمون للعالم الحديث، ركض لا متوقف نحو تحقق مادي أفضل، نمط استهلاكي مرتفع، وعملية إنتاجية تُقيم الفرد والمجتمعات.
لستُ بصددِ الحديث عن الأمر من زاوية علمية ونظرية كما فعل عالم الاجتماع زيغموند باومان، لكنها بضع محاولات لنتعاطف مع كميات هائلة من المشاعر يجهضها العالم الحديث، ويرفض أصحابها ويصنفهم في خانة “المصابون بالهشاشة”.
كما تساءل من قبلنا، نكرر التساؤل: ما الذي يفعله العالم بالموسيقى والشعر واللوحات والرقص الآن، ما قيمة ما ذكر سالفا وسط الركض الدائم لحياة أكثر مادية وأكثر استهلاكا. ربما هذا بالضبط ما نعرفه من طريقة تعامل المجتمع مع المبدعين، مع أصحاب الحس المرهف والشاعري، وكلما انضم فرد جديد إلى هؤلاء. يعيش المبدعون حالة من النبذ الاجتماعي، وصفًا بالجنون في الغالب، نبذ يصل إلى الكره والقتل أحيانًا لما يتناولنوه في مواضيعهم ويمس الخلفيات الدينية أو السياسية للمجتمعات التي ينتمون إليها. الوضع ازداد سوءًا مع التوجه المادي للعالم رغم ما كل ما قدمته الفنون والآداب لإنقاذ الإنسان وسط الحروب والكوارث، كطرق العلاج المختلفة بالفن، الكتابة والرقص أيضا. كل هذه الصورة التي تنصهر تمامًا أمام سخرية دائمة تقابل الشاعر أو الفنان في محيطه ومجتمعه.
في رواية هيا نشتري شاعرًا لأفونسو كروش، حيث يتناول العالم المادي وشاعرية الإنسان، تُقابل الإبنة التي تريد شراء شاعر بأن ذلك أمر لا فائدة من ورائه. ربما هذه الجملة التي يقابلنا بها العالم اليوم. “ما الفائدة من مشاعرك؟”. فقيمتك المسئول عن تحقيقها تأتي من إنتاجك المادي للعالم ومساهمتك فيه، أما البقية فهي فاكهة يمكن الاستغناء عنها.
ماذا يفعلُ المصابون بالهشاشة؟
يطالبك العالم الجديد أن تكون رقمًا، لا يزيد شعورك عن كونك مواطن صالحٌ، أما البقية من طاقتك فيجب أن تضخها في آلة الإنتاج. هذا ما يولد نوعًا من اللفض الاجتماعي لكل الأفراد والجماعات التي تمنح قيمة ووقتا وطاقة للمشاعر والإبداع والحس الفني في الحياة. سخرية متواصلة لكلِ من يمارس إبداعه بالشكل الذي يراه مناسبا سواء بالكتابة أو العزف أو حتى الرسم، بل ويتم توجيهه إلى مجالاتٍ قد تعود عليه بمنفعة مادية فالوقت هو المال.
خياراتُ يتحكم فيها العالم أيضا
لا يتوقف العالم عند اختيار التوجه الذي يجب السيطرة عليك، ولكنه أيضا يضعك أمام خياراتٍ مادية وشاعرية. هل تشتري كتابًا للمتعة الذاتية الخالصة أو حذاءً آخر ماركة، هل تسافر لاكتشاف أمكنة جديدة، عاداتِ شعوبٍ أخرى أو تغير هاتفك إلى موديل جديد، هل تعمل في المجال الذي تحبه ذو الدخل الأقل مقارنة بالعمل الذي لا تحب بدخل أعلى، أيضا هل ترتبط بشخصٍ تحقق مع مستوى مادي أفضل أو شخصا تبادله مشاعر الحب. كلها خياراتُ يفرضها العالم الجديد، ويتعامل معها كل فردٍ بحسب درجةِ حساسيته وشاعريته أيضا.
لماذا نشعر وكيف؟
لا أعلم حقيقة كيف تتكون المشاعر ودرجتها داخل الأشخاص، هل نولد بدرجة معينة من الحساسية اتجاه الأشياء، كيف يولد الطغاة والفنانون، من يساهم في قساوة هؤلاء وشاعرية طاغية للآخرين؟. ولماذا يشعر إنسان بمشاعر أقوى اتجاه مقطوعة موسيقية، منظر طبيعي، قصيدة بينما لا يشعر آخر، لماذا يتمسك فريق بما يملك من مخزون المحبة والمغفرة والجمال، بينما تتكلس كل مشاعر الحب وتزيد مشاعر الكراهية عند آخرين.
لماذا يختار مشاعر المحبة والهشاشة أمام المشاعر الأخرى الموجودة كالكره والغضب والصلابة، لكنه الآن يختارها وسط خياراتٍ كثيرة وينتصر لها بصعوبة بالغة، ووسط ركض عالمي نحو أخرى. تماما كما تنتصر صوت الأغنية على الحرب، وصورة الوردة أمام الدم، وربما هذه صور أيضا لا يشعر بها الجميع.
لا يتوقف العالم الحديث عن منحنا خياراتٍ عديدة في كلِ مجالات حياتنا، وبينها كلها يحاول الإنسان العثور على نفسه وتوجهه الخاص، لحماية نفسه وفردانيته مرة ولتحقيق توازنه الذي يحفظه من الانجراف والركض كما يقتضيه العالم الحديث.
add تابِعني remove_red_eye 21,476
مقال ملهم وفلسفي حول أصحاب الهشاشة في المشاعر والحس المرهف في عالم اليوم المادي
link https://ziid.net/?p=59661