ما الذي يجعل كتاب (عقل غير هادئ) حَجرًا في المياه الراكدة؟
إن مجتمعاتنا بحاجة إلى رفع مستوى الوعي في ما يخص الطب النفسي والنظر إلى الحاجة للعلاج النفسي كالعضوي تمامًا بدون ازدراء أو انتقاص
add تابِعني remove_red_eye 2,371
الدكتورة “كاي ردفيلد جاميسون” مؤلفة الكتاب والمُصابة بذُهان الهوس الاكتئابي –الاضطراب الوجداني ثُنائي القطب– لـ(30) عامًا، تكتب سيرتها بشجاعة مُبهرة عن معاناتها مع المرض وتأثيره في حياتها الخاصة ومُحيطها، وصراعها لفترة طويلة للاعتراف علانيةً بالمرض خوفًا من تأثر مسيرتها المهنية وامتيازاتها الأكاديمية.
“تكمن قوة جاميسون في طريقتها الشجاعة التي جعلت من مرضها محور حياتها العلمية، وفي قدرتها العبقرية على إيصال بهجتها وألمها إلى الآخرين، عمل مدهش” جريدة “واشنطن بوست”.
شدّني اسم الكتاب وأثار لدي كثيرًا من الفضول، إذ أني مُهتمة بشكل عام بالنّفس البشرية ومحاولة فهم أسرارها وغُموضها، ولا زلت أجد نفسي مشدودة لأبطال الأفلام والروايات المضطربين نفسيًّا وبشكل خاص، لقد كان مرض ذهُان الهوس الاكتئابي مبهمًا للغاية بالنسبة لي، ابتداءً بالاسم الذي لا يوحي لك بشيء مفهوم وانتهاءً بأعراضه التي قد سمعتُ أو قرأتُ عنها بشكل موجز -سابقًا- ولم تكُن توضح الكثير.
ولا أخفيكم أني ظننت بعد اقتنائي لهذا الكتاب بأني سوف أفتح عيني متيقظةً كمُحققة جنائية وأرصد تصرفات الآخرين وسكناتهم، وأكون مخوّلةً حينها لإصدار الأحكام على تقلبات الآخرين النفسية -بما فيهم أنا– ثم إمكانية تشخيصهم بالمرض، ولأن لدي شغف كبير بمتابعة لغة الجسد، وأفهم في كثير من الأحيان مشاعر الشخص الحقيقة التي يحاول إخفاءها والهروب منها بتلاعبه بحركات وجهه المفضوحة أمامي، اعتقدت –لسذاجتي– بأن قراءة كتابٍ عن مرض نفسي سوف تعدّك لمهمّة لا تختلف كثيرًا عن تحليل لغة الجسد!
لكن الأمر بدا أكثر واقعيةً وخطورة منه في الأفلام
وفياضًا بالمشاعر الإنسانية والجوانب الخفّية، خاصة وأنت تقرأ سيرةً ذاتيةً وتجربةً شخصية من زاويةٍ نفسية عميقة، وهذه تُعَدّ سابقةً فريدة من نوعها! ولأكون أكثر صراحةً معكم، ربما تُنهون قراءة الكتاب بدون تصوّر وفهمٍ كامل -أو جزئي حتى– لهذا المرض المُريع، لكن كان أهم ما خرجت به من هذا الكتاب ليس إدراكي لذُهان الهوس الاكتئابي من الناحية الطّبية والعَرضية بدقة –فأنا لستُ طبيبة نفسية على أية حال– بقدر إدراك واستشعار حالة المريض ومشاعره وأمزجته المتقلبة من النّقيض إلى النّقيض.
و حجم المعاناة التي يُمر بها والتعاطف لأبعد حدّ ممكن، علاوةً على ذلك يُجيب الكتاب على أسئلة شائكة حول الأدوية النفسية وهالة الإشاعات حولها من حيث الأعراض المُمتدة وإمكانية إدمانها وما إلى ذلك، وفي الوقت ذاته من قاع الألم والمرض وطوفان الإحباط الذي يجرف رغبة الحياة ليقود جاميسون إلى محاولاتٍ عدّة للانتحار، تنبَثق قوة هائلة من الحُب والمشاعر والامتنان للنعم الصغيرة والإنجازات التي لا تتوقف رغبةً في الحياة، إنّه حقًّا عزاء لكل المَرضى واليائسين، وبارقة أمَل ومواساةٌ حنونة لكل المُتعبين جسديًّا ونفسيًّا من الرّكْض في مضمار الحياة.
“سيرةٌ ذاتيةٌ نفسيةٌ للهوس الاكتئابي… غنيةٌ بالمعرفة الطبية، وعميقة الإنسانية، ومكتوبةٌ بروعةٍ، وفي أوقاتٍ كثيرةٍ شاعريةٌ وصريحةٌ، و دائمًا أمينةٌ بلا خجل” – جريدة “نيويورك تايمز”.
يطرقُ الكتاب منطقةً تكاد تكون مُحرَّمة مجتمعيًّا، حيث يكاد أن يَلحق العار بالمريض النفسي في مجتمعاتنا وأن يُوصم بالجنون ليصبح مرضُه سُبَّةً يُعيَّر بها انتقاصًا. وفي مثل هذا الوضع المجتمعي المُتدني من الوعي والتّفهم والتعاطف على أقل تقدير، يصعب على المرضى البَوح وربما إدراكهم بأنهم مرضى من الأساس ويحتاجون لعلاج نفسي. إن الكتاب سيرة ذاتية بأسلوبٍ أدبي مبهر، ومرحلةٌ استثنائية من الشفافية حين يُصرح المرء بمرضه العقلي ويحكي أدق تفاصيله غير آبهٍ بالنظرة المجتمعية، خاصة وجاميسون دكتورة وأكاديمية متخصصة في علم النفس وتُشرف على علاج المرضى.
[مراجعة كتاب: الرجل الذي يريد أن يكون سعيداً]
تقول جاميسون في كتابها
“لقد كانت هناك أمورٌ عديدةٌ تقلقني بخصوص تأليف كتابٍ يشرح -بصراحةٍ وبدون تحفظٍ- نوبات الهوس والاكتئاب والذهان التي كانت تُصيبني، بالإضافة إلى مشاكلي في الاعتراف بالحاجة إلى العلاج المستمر. الأطباء كانوا، لأسبابٍ واضحةٍ تتعلق بالترخيص وامتيازات المستشفيات، مترددين في كشف مشاكلهم النفسية للآخرين. هذه الأمور المقلقة كانت مبررًا جيدًا لعدم النشر. ليست لدي أي فكرةٍ عن الآثار الطويلة المدى لمناقشة أموري علانيةً –على هذا النحو – على حياتي الشخصية والمهنية، ولكن مهما كانت العواقب، فإنها ستكون أفضل من الاستمرار في الصمت”.
إنه بوحٌ أمين يُثنى عليه عن معاناةٍ لمرض لا زال غامضًا ومجهولًا، خاصةً في مجتمعاتنا العربية لا يزال العامة لا يعرفون شيئًا عنه.
لقد تساءلت أثناء قراءتي واندماجي في فقرات السّرد الممتع والمُخيف -في آنٍ واحد- كم من مريضِ ذُهان هوسٍ اكتئابي ذُهب به إلى الدجالين والمشعوذين ليتم علاجه من السحر والعين؟
إما بالجلد أو الكي أو التعامل اللاإنساني أو الإنساني حتى إنما علاجٌ في المكان الخطأ، وبالطريقة الخطأ، علاجٌ غير مُجْدٍ، ولأننا شعوب عاطفيةٌ ومتدينةٌ بطبعها ولا نخوض في الطب النفسي حتى ولو كان ذلك على استحياء، ولأن الإنسان عدو ما يجهل عادةً، ولأننا نعجز دائما عن تفسير أيّ تصرف مَرضي عَصيّ على الفهم غريب ونادر ويتجاوز قدراتنا العقلية على تفسيره بمنطقية، كان من الأسهل أن نُلقي بذلك على عاتق القُوى الخارقة التي لا أسوار ولا أسقُفَ لنهايتها (السحر والعين).
وحتى أكون أكثر موضوعية، وحتى لا أبدو منحازة للغرب ومنبهرة به ولا مصابةً بعُقدة الخواجة الشائعة كالإنفلونزا الموسمية في بلادنا، فإن الكتاب عرّج على الوسائل القديمة والبدائية في العلاج في الطب النفسي منها العلاج بالصدمات الكهربائية التي ساهمت الدراما العربية في إظهارها بسخاء والجراحة الفصّية، وهو علاج وحشي بطريقة بدائية عن طريق إحداث ثقبٍ في الجمجمة بمعول تكسير الثلج “يتم دق المعول داخل تجويف العين إلى أن يثقُب الجمجمة ويفصل الفص الجبهي الأمامي عن بقية أجزاء المخ”.
لقد مرَّ الطب النفسي بمراحل شائكةً منذُ بدايته في القرون الوسطى، وتسلط رجال الكنيسة حينها مرورًا بالجزئيات التي ذكرها الكتاب على الصعيد الطبّي، والأمر امتد للحالة المجتمعية أيضًا، حيث إن جاميسون عاشت صراعًا قبل تصريحها بمرضها في مجتمع غربي مُتحضر وعلى درجة عالية من الوعي وأكثر ذوبانًا في الاختلاف من المجتمعات العربية بمراحل ضوئية وكان هذا بالنسبةِ لي مدعاة للتعجّب –ولو أن الأمر مازال نسبيًّا– ومؤكدًا في نفس الوقت على حساسيّة وغموض ردود الأفعال والآراء والأفكار عربيةً وغربيةً بتفاوت درجاتها تجاه الأمراض النفسية.
بعد قراءة سيرة “كاي جاميسون” سوف تصبح أكثر تفهمًا وإدراكًا لخطورة المرض النفسي، وأن الذهاب إلى الطبيب النفسي حاجة مُلحة وليست رفاهيّة كما يعتقد البعض، علينا أن نكون يَقظين ومُتقبلين ومُتفهمين للأمراض النفسية، وأن نؤمن بها كأمراض حقيقية بعيدًا عن اتهامات نَقص الإيمان والتدين والبُعد عن الله، وأن نُشيع ثقافة الذهاب إلى الطبيب النفسي ونشجع عليها وننصح بها كما ننصح بالذهاب إلى طبيب الأسنان عندما يستدعي الأمر.
مازلنا بحاجة إلى الكثير من القراءة الكثير من المعرفة والكثير من الوعي لنتفهم الأمراض النفسية والعقلية، وهذه منظومة متشعبة يُساهم فيها المجتمع بمؤسساته المُختصة والنّخب الطبية والأفراد كافة، لكل مسؤوليته تجاه نشر الوعي والعلم، ومحاربة الخُرافة. لا يزال طريقنا طويلًا، وأول خُطوة باتجاه الوعي هي المعرفة.
add تابِعني remove_red_eye 2,371
قراءة في كتاب [عقل غير هادئ] حَجرٌ في المياه الراكدة
link https://ziid.net/?p=60206