مراجعة لكتاب سلطة الثقافة الغالبة
يحاول أسرى الثقافة الغالبة تطويع الشريعة وتمييع بعض المفاهيم بحيث توافق أهواءهم
add تابِعني remove_red_eye 3,704
ثَمّة سرٌّ خفيٌّ يجعل الضعيف يتَّبع القوي بلا أدنى مقاومة، وقد يصل به الحال إلى تجنيد نفسه لنشر ثقافة وأفكار القوي حبًّا وانتماءً له، فيذوب في تفاصيله غير آبهٍ بنفسه وأصوله، معتقدًا بذلك أنه أصبح مثله. هذا الذوبان ليس بجديد فقد أشار إليه ابن خلدون في مقدمته الشهيرة قائلا: “إن المغلوب مولع أبدًا بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”.
نحن هنا لا نُسَوّق لنظرية المؤامرة بمعناها الفجّ، ولا نستعدي أحدًا بتهويل الأمور، ولكن مما لا شكّ فيه أن هناك تأثيرًا كبيرًا لقوة استبداد ثقافية غاشمة، تمسّ كل جوانب حياتنا وعلى رأسها الاقتصادية والدينية، ولا نبالغ إذا قلنا إنها حرب وجود وبقاء، والسلاح فيها الفكر، ونصبح أمام مشكلة متكاملة الأركان إذا ما تعدى الاتباعُ الزيَّ ونَمطَ العيش إلى الفكر والعقيدة، حينها فقط يجب أن ندق ناقوس الخطر، لأننا أمام حرب فكرية لا تعرف سوى اللون الواحد، وتسعى جاهدةً لصبغ كل المجتمعات بذات المبادئ والأفكار التوجهات.
ومن أشهر السجالات الفكرية في عصرنا الحالي، تلك التي تدور رحاها بين الفكر الإسلامي والليبرالي. فقد تناول الدكتور إبراهيم السكران –في كتابه سلطة الثقافة الغالبة- مُجمل القضايا الفكرية الموجودة على الساحة الآن، قد تختلف في مضامينها إلا أنها تحمل ذات الهدف، وهو الخنوع والانصهار في ثقافة الآخر. فعلى نحوٍ متواصل وبخطى حثيثة يحاول الواقعون تحت سلطة الثقافة الغالبة بعد اتخاذهم لمسلماتٍ خاطئة إلى تجريد النص -الكتاب والسنة- عن التجربة البشرية، بمعنى أن الإسلام لا يرتبط بأي تجربة بشرية، ومبررهم هو أن النص مطلق والعقل البشري محدود ولا يحكم المحدود المطلق.
هذا القول ينمّ عن سوء فهم لعلاقة الدين بالعقل، ولقواعد فهم النص في الإسلام. ويظهر قولهم هذا واضحًا جليًّا عندما يطلق أحدهم حكمًا من أحكام الوحي أو تفسير آية يتناقض مع فهم الصحابة لها. ومن غير الممكن تجاهل التجربة العظيمة للسلف الصالح في فهم الكتاب والسنة والعمل بهما، والمعطيات الشرعية التي أسست مفهوم مرجعية السلف كثيرة ومنها على سبيل المثال قوله تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِۦ جَهَنَّمَ ۖ وَسَآءَتْ مَصِيرًا). و لا يمكننا فهم معنى سبيل المؤمنين إلا على أنه تجربة بشرية مرتبطة ارتباطًا وثيق بالإسلام، بل لا يقبل العقل السويُّ تفسيرًا غير هذا.
ويحاول أسرى الثقافة الغالبة تطويع الشريعة وتمييع بعض المفاهيم بحيث توافق أهواءهم، وأكثرها استهلاكًا وابتذالًا هو مفهوم الوسطية. ففي الوقت الذي يخبرنا فيه ديننا أن الوسطية هي حق بين باطلين، يسعى دعاة الوهم إلى ترويج فكرة مغايرة لها تمامًا وهي إنها وسط بين حق وباطل. ويسعون بكل قوة إلى كساء تيَّارهم الفكري بحلة الحرية، وإظهارنا بمظهر المتزمت، ووفقًا لذلك يجب أن نختار باطلهم وترك حقّنا، فهم لا يريدون الوصول للحقيقة بقدر ما يريدون إحكام الخنوع لتلك القوة الثقافية.
ولا يمكننا أن نذكر الوسطية دون ذكر مفهوم آخر، تدور حوله الكثير من المعارك، وجيشوا له الكثير من الألسن المأجورة، ألا وهو التجديد. فالتجديد وفقًا لرؤيتهم هو تعديل وتحوير الأحكام الشرعية لكي توافق الثقافة الغربية الغالبة، متغافلين عن فَرْق جوهري ومهمّ بين التجديد في العلوم الشرعية والتجديد في العلوم المدنية.
ولتوضيح ذلك أورد الكاتب هنا مقارنة رائعة بين عالمين وهما الشافعي رمز العلوم الشرعية وآينشتاين رمز العلوم المدنية، فكِلا الرجلين يُعتبرا شعلة الإبداع في حقليهما، ولكن لكل واحد منهما منهجه العلمي الخاص، فبينما كان همّ آينشتاين أن يتجاوز مفاهيم عصره، كان هم الشافعي أن يسترجع المفاهيم السابقة وينفض عنها الغبار، وأن يتتبع كل مفهوم مستحدث ويفنده.
فالاستحداث في العلوم المدنية مؤشر إبداع، والاستحداث في العلوم الشرعية مؤشر تراجع وانحطاط. ولكي يخففوا من وطأة تأنيب الضمير عليهم، اتجهوا إلى تتبع الرخص الناتجة عن اجتهادات بعض العلماء. برغم أن لدينا قاعدة فقهية تدل على احترام العقول، ألا وهي ترجيح الأحكام ذات الدليل الأقوى حتى لو أفتى المفتي بغير ذلك، بينما هم يرجحون الأسهل والأشهى لأنفسهم، منتقين ما يحلو لهم من الدين، وهذا ما يطلق عليه تجزئة الدين أو تبعيض الوحي.
يتبنى مجزؤو الدين مبدأ البراغماتية في التعامل مع النصوص، فيتمسكون بها إذا كانت تؤدي إلى أهوائهم، ويتملصون منها إذا عارضتها. وإذا عجزوا عن مجاراتك بالأدلة؛ سلكوا درب اللابديل، حيث يتفننون في تقويض اليقين بما هو موجود من السنة وعدم تقديم بديل.
ومما يُسَّهل انقياد شبابنا وراء هذه القوة، هو عدم اتباعهم لمنهج علمي يتكئون عليه لتمحيص كل شيء يقابلهم، فمثلًا عندما أطلق المدلِّسون قولهم إن أبا هريرة روى ٥٠٠٠ حديث وهذا غير منطقي ويدعو للشك في المصداقية، كان من السهل جدًّا اكتشاف هذا الزُّور بقليل من البحث، ليكتشفوا أنه روى ١٣٠٠ حديث مع عدم حذف المكرر، أيْ: إن العدد أقل من ذلك بكثير.
هذه بعض القضايا وغيرها الكثير، والحقيقة الواضحة والجلية أننا نعاني من انقياد للثقافة الغربية الذي يراه البعض أنه مُبَرر؛ لأننا لا نملك البديل عنها، ونعاني ضعفًا فكريًّا واقتصاديًّا مما يزيد من سطوة ذلك الاستبداد، ولكن لو أننا نظرنا إلى أنفسنا سنتمكن من رؤية نقاط القوة لدينا، وسنرى كل إمكانياتنا التي إذا ما تم استغلالها بشكل جيد سنزاحم باقي الأمم على قيادة هذا العالم.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 3,704
هذا المقال مراجعة لكتاب سلطة الثقافة الغالبة و تاثيرها علينا
link https://ziid.net/?p=89143