لماذا الكتب أهم من الروايات؟
حديثٌ عن الروايات والكتب
add تابِعني remove_red_eye 927
لطالما أثارت استفزازي تلك الحرب الدائرة بين قرّاء الروايات وعدوهم الألد : المقللين من قيمة رواياتهم. فإني أراها حربٌ سخيفة ،لاتغني ولا تسمن من جوع ،والقارئ العاقل من شاهد هذه الحروب والنقاشات من بعيد واتخذ لنفسه مكانًا في المنطقة الهادئة ،التي لا يصلها كيّد الكائدين ،يعاشر أهل الروايات ويقضي معهم أوقاتًا في غاية الجمال ،وعلى النقيض من ذلك ،يجالس الجماعة المقللة من قيمتها وينهل من أنهار معرفتهم بسلام.
عن المنطقة الرمادية أتحدث! لا أومن شخصيًا بأن مسالك الحياة إما أن تكون بيضاء خالصة أو سوداء داكنة ،و أرى أن أصحاب هذا الرأي -مع احترامي لهم- يحتاجون إلى تمارين تطبيقية ،يتعلمون من خلالها كيف ينظرون إلى تلك الآفاق البعيدة ،ويمدون أبصارهم إليها ،كيْلا تكون آرائهم سطحية في المرات القادمة. أدركت أن هناك منطقة آمنة -ليست دائمًا آمنة- تسمى بالمنطقة الرمادية ،تتوسط أغلب خلافات الآراء ،ودرجاتها متفاوتة ،فمنها الرمادي الغامق الذي يميل للسواد ،ومنها الرمادي الفاتح القريب من البياض. وعلى كل حال ،إن أهل هذه المنطقة يعيشون في راحة بال ،ويكونون في بعض الحالات حلقات وصلٍ بين منطقتي الأبيض والأسود.
لقد جعلت لي مكانًا وسطًا في تلك الحرب الحامية بين حزب قرّاء الروايات وحزب مسخفيها ،ولا أخفيكم أن مكاني يميل قليلًا إلى الحزب الثاني.
قاعدتي في القراءة
لكي يتضح مكاني بالشكل الدقيق في تلك الحرب ،دعوني أشارككم قاعدتي في القراءة ،التي تنص على أن أركز جهدي على الأعمال الجادة والكتب القيّمة بنسبة تفوق الستين بالمئة تقريبًا ،أما الأربعين -أو أقل- المتبقية فأملؤها بقراءة الروايات. في رأيي الشخصي أنه الضروري جدًا على القارئ الجاد أن يحذر من أن تكون الروايات هي صاحبة النصيب الأكبر من أجمالي قراءاته ،وتُبنى ثقافته على أساسٍ هش وسطحي ،فلا يختلف عاقلان على أن الروايات لا تعطي معرفة عميقة ،بل مجرد قشور وشذرات معرفية بسيطة ،وربما تكون نافعة من الجانب الإنساني والنفسي أكثر من الجانب العلمي والتكويني.
لذلك يجب على الإنسان أن يوفي بين هاذين الجانبين ،ويوازن بينهما بالعدل لا بالمساواة ،فالجانب الإنساني على سبيل المثال نستطيع تغذيته من خلال حياتنا وتجاربنا الشخصية ومن المواقف التي نشاهدها وندركها ،ثم بعد ذلك نقرأ رواية تغذي هذا الجانب لدينا ،وتضيف لنا حياوات أخرى فوق حياتنا ،وتنقلنا إلى عوالم بعيدة وأماكن لم تطأها أقدامنا قط ،ونتسلل إلى عقول أشخاص لا نعرفهم ،وبذلك نرتقي انسانيًا كلما زادت ذخيرة تجاربنا الفعلية والقرائية.
أما الجانب العلمي والتكويني البنائي فالكتب ركيزةٌ أساسية في تحصيله وتطويره ،ومن الصعب جدًا أن نحصّله من خلال تجاربنا اليومية ،فتسليط الضوء هنا يكون على الكتب دون الروايات ،لأنها لا تعطي إلا معرفة ركيكة ما ذكرت سابقًا.
ولأن مهمة تحصيل العلوم والمعارف من خلال حياتنا اليومية شاقة ،ومن خلال قراءة الروايات سطحية تفتقر إلى الصلابة والعمق ،كانت القاعدة تنص على أن للكتب النصيب الأكبر من إجمالي حصيلة القراءة. لهذا السبب تحديدًا أنكرت على بعض الأشخاص إكثارهم من قراءة الروايات ومطالعتها دون غيرها من الكتب ،وكلي أسفٌ عليهم لأنهم لم يجنوا منها سوى معرفة واهنة أي موجة فكرية قادرة على هدمها فوق رؤوسهم.
حتى إنني كتبت تغريدة أقول فيها : “اسمحوا لي: إذا كانت الروايات هي صاحبة النصيب الأكبر من قراءاتك ،فعوضك الله وأنا أخوك” وأخرى ساخرة قلت فيها : “تجيك القائمة كلها من فوق لتحت روايات ويقولك “قراءات شهر يناير !!” تعبيرًا عن استنكاري لأولئك القوم المساكين. ربما نظر إلي البعض بعين الريبة ،وعدني من حزب مسخفي الرواية بسبب هاتين التغريدتين التي عبرّت فيهما عمّا يجول في داخلي عند مشاهدة الروايات المتراكمة فوق بعضها والكتب القليلة -قد تكون سخيفة أحيانًا- محشورة بينهم.
على كلٍ حال .. ينص الجزء الثاني من قاعدتي -التي أشغلتكم بها- على أنني إذا عزمت على قراءة رواية ،فأن هنالك بعض المعايير إذا استوفتها الرواية قمت بقراءتها ،وإذا لم تستوفها أحاول جاهدًا أن ابتعد عنها ،لأنها لا تشبع حاجتي المعرفية والانسانية.
ومن هذه المعايير: أن تكون الرواية المراد قراءتها تاريخية تجري أحداثها في حقبة تهمني ،أو تكون رواية تناقش قضية معيّنة بقالب أدبي رفيع ،ولا بأس بتلك الروايات التي تنقل لي معاناة البشر الآخرين سواء أكانوا أفرادًا أم جماعات وشعوب ،وتعجبني تلك الروايات التي تسهل علي بعض العلوم والمعارف ،وتوصل لي بعض المعلومات العسيرة بقالب قصصي يستسيغه عقلي ويستطيع هضم ما حصّله من خلالها. ولا أنكر أنني كسرت هذه القاعدة وقرأت بعض الروايات بغاية المتعة فقط ،وهذا نادرًا ما يحصل ولله الحمد.
أكثر ما أركز عليه في عالم الروايات بعد موضوعها هي طريقة السرد وتسلسل الأحداث ،ثم الترجمة إذ كانت رواية منقولة إلى العربية ،وأتردد عشر مرات قبل الشروع في عملية القراءة إذا قابَلَتْ الرواية انتقادًا من أحد القراء على سردها وحبكتها أو ترجمتها.
ومعاذ الله أن أبخس حق الروايات وما قدمته إلي من معاني نبيلة ،ولا حق أولئك الروائيين العظماء الذين قدموا للأمة البشرية الشيء الكثير.
قد يراني البعض طويت الصفحة الأخيرة من رواية ما ،معلنًا بذلك انتهائي منها ،لكن هذا غالبًا لن يحدث بالمعنى الحرفي ،حتى أنني عبرت عن هذه الظاهرة في تغريدة سابقة كتبتها ،بعد انتهائي من قراءة إحدى الروايات ،وقلت في تلك التغريدة : “انتهيت من الرواية ،واغلقت الكتاب ،لكن عقلي مازال عالق في الأحداث والحوارات” نعم! اغلقته لكن ليس فعليًا.
كيف لا ومازلت عالقًا على شواطئ كريت بعد مضي أكثر من عامٍ ونصف على طوي الصفحة الأخيرة من رواية زوربا اليوناني؟
وفي الحقيقة لا أعلم أي تعويذة ألقاها الروائي نيكوس كازانتزاكيس بين ثنايا روايته حتى جعلني أحب ذلك المسن الآثم ،وأنا من أشد منتقدي أفعاله وأفكاره المتناقضة!
ولا أعلم إلى أي درجة بلغ هيامي بالطفلة هايدي وجدها المسن الطيّب ،وعجزت في تعليل سبب شعوري بالانتماء إلى قمم جبال الألب وأنا أبعد ما أكون عنها!
ولا أعلم كم مره تسكعت في شوارع مدينة بطرسبورغ الباردة من خلال روايات ديستويفسكي؟
أو تجولت في دهاليز أسواق قرطبة وقصورها ،وامتطيت صهوة جوادي وانطلقت مخترقًا صفوف المجاهدين الأندلسيين من خلال روايات الدكتور محمود ماهر؟
لكنني أعلم أن أدب الرواية أسمى من مجرد قصة تسرد ،وبطل ينتصر أو يهزم ،بل هو في حالاتٍ كثير يجسد حال الشعوب وينقل ثقافتها ،ويسبر أغوار أفراد المجتمع ،ويحلل طبقاته ،ويعرض المشاكل ،وربما يتطرق للحلول ،في قالب قصصي ممّيز ،وهنا تكمن أهميته.
وانطلاقًا من استشعاري لتلك الأهمية الإنسانية وتواضعي لها ،أعطت قاعدتي الرواية نصيب الأربعين بالمئة فأقل.
إن هذه القاعدة هي النظارة التي أرتديها وأنظر بها إلى كون القراءة الفسيح ،وإليها أرجع الأمور وأقيسها ،وبها أصدر أحكامي القرائية ،ومن خلالها تجد أنت جواب السؤال المطروح على هيئة عنوان.
زبدة القول:
نقرأ الكتب وأيضًا الروايات ،ولكن حذاري أن تكون الروايات هي الفئة الغالبة ،لأننا لا نبغض السطحية بجميع أنواعها ،فما بالكم إذا كانت تقبع في حصيلتنا المعرفية؟
ختامًا:
هذه إجابتي الشخصية ،قد تختلف معها وتراها مجرد ثرثرة وهراء ،وقد تؤيدها ،وقد تختلف مع جزء وتتفق مع الآخر ،أنت وشأنك فيها ،المهم أنني فرغت مافي كبدي.
——————
استدراك:
لعلكم تجدون في هذا المقال إجابة لسؤال آخر يدور في ذهني ،ألا وهو : هل تصنع لنا الروايات مثقفين حقيقيين؟
add تابِعني remove_red_eye 927
link https://ziid.net/?p=97373