مراجعة رواية حكاية السيد زومّر (أو الطفل الذي لا يموت) لباتريك زوسكيند
في نوفيلا صغيرة يتساءل الروائي الألماني الكبير باتريك زوسكند تساؤلات وجودية كبيرة من خلال ذكريات رجل كبير يرويها بلسان طفل
add تابِعني remove_red_eye 4,170
في ذلك الوقت -عندما كنت لا أزال أتسلق الأشجار- وهذا منذ زمن بعيد جدًّا، قبل سنوات وعقود كثيرة، حينها كان طولي لا يتجاوز المتر إلا قليلا، وقياس قدمي ثمانية وعشرين وكنت خفيفًا لدرجة أنه كان بوسعي الطيران.
كم هي مثيرة ذكريات السيد الكبير حينما يجلس مع الطفل الصغير بداخله ليدوّن قصة من قصصه القديمة، فكل منّا بداخله طفلٌ لا يموت، يحمل قصة لا تشيخ، تسيطر روحه علينا حتى عهد الشباب ثم يختفي تدريجيًا و ببطء شديد أثناء الرحلة ولكنه لا يموت أبدًا إلا إذا قررنا نحن أن نقتله. يداهمنا هذا الطفل بين الحين والآخر فيظهر تارة في صورة تضحكنا، رغبة طفولية نسميها التفاهة، حكاية نرويها فنفرح من صميم القلب، أو لعبة نجدها صدفة، أو فيلمًا كرتونيًا، أو أغنية نسمعها أو رفاق نراهم بعد زمنٍ بعيد في محاولة للفت الانتباه إلى وجوده الكامن فينا.
في هذه الرواية الفريدة من نوعها بين أعمال “زوسكيند” صاحب رواية العطر الشهيرة يستدعي الكاتب روحه الطفلة ليكتب بها العمل. فيقدم لنا عملا خفيفًا ولطيفًا و مَرِحًا، ذو قلمٍ رشيق ومشاعر إنسانية مرهفة وعابرة لا يتكئ عليها زوسكيد كثيرًا، ويكتفي بالإشارة إليها.
السرد
اختار “زوسكيند” ها هنا السرد ذا المشاعر المرهفة لكي يسيطر على العمل، على عكس ما اعتدنا في رواياته الأخرى من سيطرة الأفكار والتساؤلات المنطقية المباشرة في كثير من الأحيان.
في هذه النوفيلا الصغيرة التي لم تتعد 90 صفحة يطرح علينا الكاتب أسئلة عميقة حول النفس البشرية بطريقة غير مباشرة، أسئلة الوحدة والمرض والغربة والحاجة الدائمة إلى البشر والاجتماع الإنساني مهما بدت العزلة التامة ممكنة ومريحة في أغلب الأحيان، من خلال شخصية السيد “زومّر” ذلك الرجل الذي اختار أن يعيش وحيدًا بغير عائلة، ولا أصدقاء ورفض رفضًا قاطعًا أن يكوّن صداقات أو حتى علاقات عابرة مع الجيران.
وتتقاطع حكاية الطفل أو الرجل الكبير (الراوي) مع حكاية السيد زومّر الذي أثّر تأثيرًا بالغًا في نفس صاحبنا؛ لأنه لم يكن من الأشخاص الذين يُحدثون ضجيجًا في أذنك أو في العالم، بل كان من أولئكَ الذين يحفرون فيكَ جرحًا وهم صامتون. السيد الذي لم يلتفت لصمته وصوته الدقيق أحد، استطاع البطل أن يلتفت إليه من خلال مراقبته له بذكاء الأطفال، وأن يتفهم أنه رجل غارق في الحزن وصاحب مأساة كبيرة، من خلال جملة عابرة قالها يومًا بوجه غارقٍ في الماء والأسى:
كتب للأطفال: ترشيحات ليتعود الأطفال القراءة
“دعوني إذًا في سلام أخيرًا”
كان السيد زومّر عجوزًا يسكن في بيت صغير بجانب بيت البطل، وحيدًا بعدما ماتت زوجته، لا تربطه علاقة بأي أحد ولم يعرف له أولاد أو أحفاد، كان العجوز محل دهشة من جميع السكان حوله، صاحب روتين يومي لا يكسره وهو السير بلا توقف يوميًّا لمدة (16) ساعة ودونما هدف، مستعينًا على الظروف المناخية القاسية بعصًا ومطّارية وشطائر زبدة.
أميال يقطعها الرجل يوميًّا ببضعة أشياء قليلة ووِحدة وإنهاكًا جسديًّا باديًّا على قسمات وجهه وجسده المتعب الضئيل. وهذا ما جعل أهل القرية يتوهون في عدة احتمالات وضعوها لتفسير حالته الغريبة، فمنهم من رأى أنه مجنون، وآخرون رجحوا إصابته بمرض ارتجاف العضل، فيما أجمع الكثيرون على أنه يعاني من متلازمة الكلاوستروفوبيا (فوبيا الأماكن المغلقة)، والتي تجعله غير قادر على البقاء هادئًا في غرفته، وتجبره على السير هائمًا إلى اللاشيء في العراء.
يجتمع البطل بالسيد العجوز في موقفين كاشفين عن سبب تعلق البطل بسيرة السيد العجوز، الأول هو عندما حاول الطفل يومًا الانتحار من فوق شجرة بسبب رغبة طفولية ساذجة فأنقذه السيد زومّر، والثاني حينما شاهدَ الطفل وحيدًا موت السيد زومّر وهو يغرق نفسه، في نهاية اختار ألا يشاركها مع أحد طيلة عمره واحتفظ بها لنفسه.
أفضل 10 روايات صينية يجبُ أن تقرأها
الصورة من أجْل الكلمة
على غير المعتاد في الكتب والروايات من إضافة صور ورسومات؛ كانت رسومات الفنان الفرنسي “سِيميه” هي الوجه الآخر المكمِّل لهذا العمل، فقد أكمل لنا العالم الذي رسمه “زوسكيند” لطفل صغير يتكلم على لسان رجل كبير وأدخلنا فيه –ككبار- يدخلون كهفًا لطفل لا يموت أبدًا فأبدع وأضفى على العمل بهجة الصور الطفولية، وتركنا أمام رواية مرئية عظيمة.
add تابِعني remove_red_eye 4,170
الرواية هي أحد الطرق التي يمكنك بها أن تحلق في فضاء الخيال تحليل لرواية السيد زمر بطريقة ملهمة ممتعة
link https://ziid.net/?p=54607