الثقافة الكميّة: هل هي جريمة أم نتيجة؟
نوجه أن الثقافة الكمية سرطان يجتاح العقول المعاصرة، وحول ميدان المعرفة إلى حلبة تسابق وادخار، وهو يمثل حرمانًا ثقافيّا يشكل خطرًا
add تابِعني remove_red_eye 2,799
نُصِحَ يومًا بمعرفة شيء ما عن كل شيء، ودراية كل شيء عن شيء ما، ذلك المبدأ حين وقع تحت الأيدي الخطأ والفهم المشوّه أفسد النوايا الاجتماعية بإنتاج جيل لا يعرف ما له وما عليه، جيل تسارع بكل همة لمعرفة كل شيء عن كل شيء؛ فورث التخبط والتخمة المعلوماتية غير الموظفة في المكان السليم والموضع السديد، وفجر ما نصطلح عليه في عرف المقال “جريمة الثقافة الكمية“.
نبعت ظاهرة الثقافة الكمية من عدة مصادر نراها راحت تشق طريقها إلى المجتمع مع فجر العولمة والتكنولوجيا الحديثة والإلكترونيات والعوالم الرقمية، وكان النتاج منها أن خلفت ما يقارب من جيلين كاملين يفخران مثلًا بحيازة مكتبة تحوي ما يفوق العشرة آلاف كتاب ولكن دون جدوى، يرث المالك كَمًّا من المعلومات جراء هذه القراءات المتوسعة لكنه يغرق في قاعها، يقوده التسابق في جني كل ما خطَّه قلم وكل ما سطرته يد، إلا أنه يغفل تمام الغفلة عن استثمار ما قرأه واطلع عليه، حتى وإن نبه إلى التدوين كأضعف الإيمان تخرج عباراته مشحونة بالتيه دسمة الدلالات لا تدري بالضبط ماذا يريد أن يقول.
أسباب الثقافة الكمية
تعدّد مصادر المعلومات
حيث بزوغ فجر القرن الواحد والعشرين، واتساع الوسائل التي تنجز الحصول على المعلومات من أكثر من جهة، مما ألقى بالمسائل والأصول والفروع لكل علم من العلوم أمام المقتدرين على استثمارها وغير المقتدرين، فصار هناك وسائل مثل الكتب الإلكترونية والمتاجر الرقمية ومحركات البحث التي اختصرت سنين للقدماء في البحث عن المعلومة في بضع ثوان معدودة، فزرع ذلك في جوف إنسان القرن الحالي الافتتان والتسابق على تعميق الغور المعرفي ليس إلا، والخيلاء الثقافية والنرجسية المعرفية التي عرض لها النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح “ثلاثة تُسعَّر بهم النار يوم القيامة…” منهم عالم ما أخلص علمه لله لكن ليشار إليه.
سهولة الحياة
لقد ساهم العصر الإلكتروني في تيسير سبل العيش على الإنسان؛ فاختصر عليه الانشغال والتصرف في الدنيا وأمدّه بالمزيد من الخمول والفراغ الحياتي؛ ذلك الذي دفع البشر دفعًا إلى تزايد الشغف بالاطلاع النَّهِم على أكثر من وسيلة للمعلومات لقضاء فراغه؛ مما زكى جذوة الفضول عنده فصار يلهث خلف كل كلمة مكتوبة أو أي سطر مدون، وبذلك تحول الفراغ إلى إدمان قرائي ومعرفي غير موجه.
عدم فهم طبيعة العلم والأدب
إن الثقافة الإنسانية يربو مفهومها عن كونه مفهومًا جامعًا للمعارف والعلوم والآداب، فهي عملية تتسم بالتتابع والاتصال، يشكل كل جيل منها حلقة وراء حلقة، وحلقة تسلم أخرى لضمان سلامة الهويات القومية والعرقية، لذا؛ فإن اختزان المعرفة على الأرفف وتكدس المعلومات في الذهن حتى تتعطن ليس بالشيء الذي يساهم في اتصال هذه الحلقة، بل إنه كومة من الأسفلت تحجرت وتكومت في طريق فلا هي مطبّ صناعي ولا هي طريق معبد لاستكمال الرحلة، فصارت ضررًا أكثر منها نفعًا.
الحل؟ الثلاثية الثقافية
إن التخلص من الثقافة الكمية يعود إلى مراعاة مثلث هام من المصطلحات، يقوم بحفظ جودة المعرفة واستثمارها في المجتمع، وذلك المثلث هو: (البحث، التوجيه، الإسهام).
أولًا: البحث
إن طبيعة البحث تقوم على الإفادة من كل المصادر المعرفية المتاحة لغرض ما، وتقصي ظاهرة ترمي إلى هدف سامٍ يعود بالنفع على الجيل المعاصر، وذلك أضمن حفاظًا على تسلسل حلقة الثقافة من القدماء إلى المعاصرين بلا أن تلحق بها شائبة تعكر صفو الهوية.
ثانيًا: التوجيه
إن التوجيه يعد الزاوية القائمة في المثلث المعرفي، فهو الذي يرشد الباحث إلى ما هو أدعى للتفنيد وأسد للحاجة المجتمعية والعلمية، وهو كذلك يحدد طبيعة المساهمة التي ستقوم بها الثقافة وأدواتها في المجتمع، أي أنه باختصار يوجه مقومات البحث لسد حاجة مجتمعية تحفظ للمجتمع كيانه.
ثالثًا: الإسهام
إن الإسهام هو نتاج العمليتين السابقتين، ويجب أن يُراعى بدرجة توفي حاجات الزمن الذي يوجه إليه هذا النتاج الثقافي، وهو يتيح بأكبر قدر ممكن توظيف المعرفة المكتسبة خلال البحث والتوجيه.
لا بدّ أن نوجه أن الثقافة الكمية سرطان يجتاح العقول المعاصرة، وحول ميدان المعرفة إلى حلبة تسابق وادخار، وهو يمثل حرمانًا ثقافيًّا يشكل خطرًا على المجتمع وعقليته، لذا كان أوجب على القائمين مراعاة ما سبق.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 2,799
مقال يناقش فكرة الثقافة الكمية
link https://ziid.net/?p=62382