إدوارد هوبر، رسام الوحدة الحديث
عندما تنفذ منا الكلمات لنعبر عما نمر خلاله، نجد الفن ينطق به، يصرخ بما نريد أن نقول في وجه المجتمع والناس فيعبر عنا وعما نشعر به
add تابِعني remove_red_eye 11,914
إدوار هوبر من أوائل الرسَّامِين المُعاصِرين الذين جَسّدوا الوحدة والحزن في اللوحات لدرجة أنه يمكن الشعور بعزلة الشخصيات في لوحاتهم وكأنها حدثت لك مرة، أو أنك تشاركهم الأمر.
ففي مدن تضج بالحياة والحركة، نرى العزلة تسجن من فيها، فبرغم الحضور البشري الهائل من حولك، إلا أنه لا يكفي لتبديد تلك الوحشة. ومن هنا نعرف أن الوحدة لا تتعلق بالقرب المكاني للأشخاص، و لكن بالحضور الحميمي لعلاقتنا مع مَن نحب. بالألفة والقرب النفسي الكافي معهم، منها يتبدد إحساس الغربة والوحشة.
فحين رسم هوبر تلك الوحشة الواقعية في لوحاته. وجسّد شعور الوقوع في فخ العزلة الموحشة في المدينة الكبير من خلال رسم المشاهد الروتينة التي يمرّ بها الأفراد في خضم كل يوم.
ففي لوحة (صقور الليل nighthawks)
يجسّد هوبر كيف يمكن أن تسجن في مكان لا تشعر فيه بالحياة، وإنما أوقات تمر بلا هدف، ففي مقهى في وسط مانهاتن، بعد منتصف الليل يجلس ذلك الرجل وحيدًا يتفادى النظر للآخرين، وبرغم قربه المكاني من الثنائي المقابل له، إلا أن هناك بُعدًا روحيًّا لا يمكن كسره. بعد يوم شاق ومرهق، يجلس الرجل وحيدًا في ذلك المقهى لا مدخل ولا مخرج فيه، فهو أشبه بفخ لا يمكنك الفرار منه، زنزانة زجاجية، لا نعرف، هل كان المطعم ملجأ للمعزولين، للوحيدين الذين يكدون في وسط ضجيج المدينة كل يوم، أم أنه مجرد مكان يجسد القطيعة والوحدة التي تعيشها المدينة الحديثة؟ فاللوحة ترفض الالتزام بقالب معين.
تقول عنها الكاتبة الأمريكية جويس كارول أوتس (إنها أكثر اللوحات إثارة للمشاعر، و أكثر لوحة رومانسية تم إعادة استدعائها لتصف بدقة الشعور بالوحدة في أمريكا).
لوحة (morning sun)
تجلس امرأة تحدق من خلال النافذة بقلق وتأمل يشوبه الريبة، فبرغم الصباح المشمس الذي يحيط جدران غرفتها، إلا أن شعور العزلة يحيط بجوّ الحجرة الصغير، لدرجة مقبضة، فعينها التائهة وفكها الصغير يشعرانك بالحزن الذي يسيطر على ملامحها، وبرغم جسدها الذي مازال يحمل أثر الشباب إلا أن وجهها امتلأ بالتجاعيد والخوف، وكأنه يذبل في انتظار شيء لن يأتي. في بعض الأحيان كنت أجد نفسي في أحد لوحات هوبر، من أكثر اللوحات التي رأيت بأنها تجسدني وتجسد الكثيرين غيري.
لوحة (automat)
امرأة جميلة، تجلس وحيدة في مقهى غير مزدحم، خجلة وعلامات الحزن ترتسم على وجهها الهادئ، ترتدي قفازًا في يديها والأخرى عاريةً كدليل على التردُّد بين الرحيل والانتظار، امرأة منفصلة عن العالم الواقعي، حانية كتفيها علي عالمها الذاتي، الذي بشكل ما يظهر على ملامح وجهها البسيط. لا نعلم أتنتظر أحدًا، أم أنها في خضم فَقْد ما؟، ولكن كل ما يظهر انغماسها في وحدتها الذاتية بعيدٍا عن الجميع.
استوحى هوبر معظم لوحاته من مشاهد متكررة رصدها أثناء تمشياته اليومية في شوارع نيويورك، فنيويورك هي مدينة الزجاج والأعين المتنقلة، فمن السهل أن تكون أكثر الأفعال خصوصية كتمشية في منزلك بملابس النوم، تحت رحمة تحديق غريب مار بقطار ومن شارع قريب من بيتك. وهذا ما فعله هوبر عندما رسم لوحته (night window) فكانت اللوحة مستوحاة أثناء مرور هوبر في أحد القطارات الليلة، عندما خلّد هذا المشهد.
(a room in new york)
لوحة حزينة تحوي زوجين صامتين تفصل بينهما منضدة مستديرة وكأنها فجوة سوداء لا يمكن تخطيها، الرجل منغمس في الجريدة في حين زوجته تدق على أصابع البيانون بإحباط وحزن، كمحاولة لبناء جسر الحديث وكسر الصمت الثقيل بينهما.
جسد هوبر حالات الاغتراب الذي يواجها الإنسان في المدينة الكبيرة، التي تنتزع منك روابطك وتعري خصوصيتك، فتضفي على عالمك عزلة مرة، فاعتمد هوبر لإبراز تلك المرارة، اللون والظل والضوء لخَلق البُعد الدرامي للوحاته. يرجع الأمر لتأثره بأستاذه الأمريكي روبرت هنري والفرنسي غوستاف كاييبوت وغيرهم الذين تبنوا الاتجاه الواقعي في رسمهم.
و برغم طبع هوبر الانطوائي، إلا أنه صرح في مقابلاته الصحفية القليلة بأن المرأة في أعماله مستوحاة من زوجته جوزفين نيفيسون والتي كانت رسامة أيضا، والتي توقفت عن الرسم بعد زواجها من هوبر، لتصبح مساعدته ومديرة أعماله. استوحت بعض الأعمال السينمائية من لوحات هوبر كفيلم (shirley visions of reality).
توفي هوبر عام (1967م) عن عمر (84) عامًا مخلِّفا وراءه (236) لوحة.. معظمها تصف الحزن الذي خلّفته الحرب على أرواح الأشخاص، فيناقض معها الحلم الأمريكي الوردي الذي كان يروج له الإعلام، بالمقابل يصف العزلة الاجتماعية التي يواجهها البشر جميعًا في كل مكان.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 11,914
مقال ملهم يتناول أبرز لوحات إدوارد هوبر
link https://ziid.net/?p=64737