الشطرنج.. لا يعرف الحلول الوسط

الشطرنج، لعبة يعرفها الجميع ولا يلعبها إلا القليل، يصعب أن تسأل أحدًا عنها وتكون الإجابة أنه لم يسمع عنها من قبل، بالتأكيد سمع عنها أو صادفت عيناه هذه الرقعة من قبل، ولكن بالطبع حاله كحال غيره لا يدري ما السبب الذي يجعل رجلين بالغين يبذلان هذا الكَمّ من التركيز والوقت طواعية في لعبة تعتبر بالمقاييس الشعبية مملّة، أو على أحسن تقدير ليست ممتعة ولا تضفي الكثير من المرح على مشاهدي المباراة، وأجد هذا التصور منطقيًّا جدًّا لأصحابه، فما الممتع عندما يلعب يقوم أحدهم بتحريك حصانه لمنع خطة كانت لتأخذ ثلاث خطوات من الخصم، ما الممتع في مشاهدة مباراة شطرنج قد تستغرق ساعتين أو أكثر لمعرفة من الفائز، سأخبرك أنا ما هو الممتع حقًّا.

الفرق بين الشطرنج وغيره من ألعاب الطاولة

الطاولة أو الدومينو، الألعاب التي تعتمد بنسبة معينة على الحظ، الطاولة تعتمد على النرد والدومينو لا تدري أي ورقة ستأتيك من السحب، بالطبع الذكاء وكثرة الممارسة لها دورها أيضًا حتى تفوز في هذه الألعاب، ولكنها وحدها ليست كافية وهذا هو مربط الفرس.

سأشرح لك الفارق بين الشطرنج والطاولة عن طريق فَهْم الفارق بين نوعين مختلفين من البشر، سنبدأ بالطاولة، النقطة الأولى هي عدم الخسارة أو الإحساس بعدم الأفضلية، إذا كان المكسب حليفك فستعلو وجهك ابتسامة كبيرة جدًّا وضحكة صاخبة مع بعض التعليقات الساخرة التي تثبت بها تفوقك الشديد على منافسك وأنه لا مجال لخسارتك، وإذا كانت نتيجة الدور القادم هي خسارتك، تلقائيًّا سيكون الحظ هو الملام الوحيد، أنت بارع جدًّا في هذه اللعبة ومحال أن تكون أخطأت ولكن الحظ دائمًا ما يُخطئ ويساعد الأقل مهارة ونسميها (حظ المبتدئين)، يعنى في كلتا الحالات أنت رائع أنت إن فزت فهي المهارة وإن خسرت فهو النرد.

أما في الشطرنج فالموضوع مختلف كثيرًا، اللعبة تعتمد على الذكاء والتركيز، لا مجال هنا للحظّ، لن يأتي النرد ويعطي أحد اللاعبين وزيرًا ويمنعه من الآخر، وهذا ما يجعل الشطرنج مستحيل بالنسبة لفئة كبيرة من الناس، فكرة مخيفة أن تخسر ولا تجد سببًا للخسارة، لا يوجد شيء تلقي عليه اللوم، لن تستطيع أن تذهب لصديقك القديم الذي يسمى الحظ وتحمله سبب الخسارة، وكالعادة لن يدافع عن نفسه ولن يدافع عنه أحد المتفرجين والسكوت علامة الرضا ولن يقف الأمر على ذلك، الحظ صديق طيب وينسى سريعًا وغالبًا سينسى الإهانة سريعًا ويقف بجانبك في المباراة القادمة وسيهديك المكسب ويجعلك تشعر بالنشوة مرة أخرى.

طبيعة الشطرنج

الآن تريد أن تقنع أحدهم أن يترك هذا الصديق الوفي ويلعب لعبة أخرى بدونه، وحتى إن وافقك أن يجرب هذا العبث فماذا يفعل حال الهزيمة؟ لا يوجد هنا صديقك، جرب أن تناديه لن يرد عليك ليس خجلًا كالمعتاد هو فعلًا غير موجود، إن لمته هذه المرة سيتهمك الآخرون بالجنون، ما هذه الورطة؟! ما الذي آتى بي إلى هنا، إذًا ما الحل وعلى مَنْ تحديدًا ألقى اللوم! نعم الإجابة التي تتوقعها منذ الوهلة الأولى صحيحة، أنت سبب الخسارة عقلك هو السبب، ماذا تعنى؟  أنني أقل ذكاء من خصمي؟

لا ليس بالضرورة، أنت ما زلت مبتدئًا، نعم ولكن خصمي ليس بطلًا للجمهورية.. نعم ولكنه لاعب جيد لديه من الخبرات ما يجعله خصمًا صعبًا خاصة أما مبتدئ لم يلعب إلا بضع مرات، عندما تكتسب بعض الخبرة حينها فقط سيكون المقياس الوحيد وسبب المكسب أو الخسارة هو ذكاؤك. آه قد نسيت أن أخبرك، عندما تفوز في مباراة شطرنج لا تصدر بعض المرح بصوت عالٍ فقط تسلم على منافسك وهو سيقوم بتهنئتك، لا يهم انْسَ ما قلت. عندما تفوز هذا سيكون رد فعلك. وكيف عرفت؟ إحساس أنك تفوقت بعقلك فقط لا يضاهى، ستجربه بنفسك وتفهمني.

الآن أنت أمام مفترق طرق، ستستمر في وظيفتك المملة السهلة التي لا تربح منها الكثير من المال، أم ستقبل العرض وتذهب لهذه الوظيفة الصعبة التي تتطلب الكثير من المهارات التقنية والسمات الشخصية وتحمل المسؤولية والعمل تحت الضغط وبالمقابل سيكون الراتب أضعاف ما تتقاضاه الآن، لا لن أقبل ما كل هذه المتطلبات؟ أنا لا أظن أنى أملك كل هذا. ثم ماذا إن فشلت، ماذا سيقول عنى أقربائي وأصدقائي؟

يجب أن تذهب بعيدًا، يجب أن تغوص في أعماق التجربة الجديدة، صدقني لن تندم، ستعرف نفسك أكثر وستفاجأ بأشياء كثيرة لم تكن تعرف أنها لديك، لا تشغل بالك كثيرا بالنتيجة، حتى وإن كانت عكس ما تريد، الرحلة نفسها ستكون ممتعة أو بالأحرى مختلفة، وهذا يكفي لأني أظن أن هذا الاختلاف سيجعلك تشعر أنك حي.

Queen’s Gambit

على الهامش أيضًا أريد أن أعبر عن سعادتي الكبيرة للأثر المدهش الذي تركه المسلسل الأمريكي الرائع queen’s gambit الذي جعلني أعود للعب الشطرنج بعد انقطاع كبير. وتجد أنه في أمريكا مثلًا ارتفعت مبيعات الشطرنج بنسبة 87%، ومبيعات كتب الشطرنج بنسبة 60%، كما زادت نسبة البحث عن “الشطرنج- Chess” أربع مرات تقريبًا على محرك البحث غوغل.

ومن أجمل الجمل الحوارية في المسلسل على لسان البطلة: “Chess isn’t always competitive. Chess can also be beautiful. It was the board I noticed first. It’s an entire world of just 64 squares. I feel safe in it. I can control it. I can dominate it. And it’s predictable، so if I get hurt، I only have myself to blame. ”

الشطرنج عالم له قوانين معروفة ومحددة ولا يوجد أي فرصة لحدوث شيء غير منطقي أو متوقع، إن خسرت لا تستطيع أن تلوم إلا نفسك، لا توجد كلمات أفضل من هذه لأختم بها.

إليك أيضًا

• سيمفونية الشطرنج المدهشة!
• الشطرنج.. ذلك المجهول!
• لعبة الشطرنج تفكير وأخلاق